فصل: فالأول: أن يؤخذ المعنى ويستخرج منه ما يشبهه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر (نسخة منقحة)



.النوع الثلاثون: في السرقات الشعرية:

ولربما اعترض معترض في هذا الموضوع فقال: قد تقدم نثر الشعر في أول الكتاب، وهو أخذ الناثر من الناظم، ولا فرق بينه وبين أخذ الناظم من الناظم، فلم يكن إلى ذكر السرقات الشعرية إذن حاجة. ولو أنعم هذا المعترض نظره لظهر له الفرق وعلم أن نثر الشعر لم يتعرض فيه إلى وجوه المأخذ وكيفية التوصل إلى مدخل السرقات، وهذا النوع يتضمن ذكر ذلك مفصلا.
واعلم أن الفائدة من هذا النوع أنك تعلم أين تضع يدك في أخذ المعاني إذ لا يستغني الآخر عن الاستعارة من الأول، لكن لا ينبغي لك أن تعجل في سبك اللفظ على المعنى المسروق فتنادي على نفسك بالسرقة، فكثيرا ما رأينا من عجل في ذلك فعثر، وتعاطى فيه البديهة فعقر، والأصل المعتمد عليه في هذا الباب التورية والاختفاء بحيث يكون ذلك أخفى من سفاد الغراب، وأظرف من عنقاء مغرب في الإغراب.
وقد ذهب طائفة من العلماء إلى أنه ليس لقائل أن يقول: إن لأحد من المتأخرين معنى مبتدعا، فإن قول الشعر قديم منذ نطق باللغة العربية، وإنه لم يبق معنى من المعاني إلا وقد طرق مرارا.
وهذا القول وإن دخل في حيز الإمكان إلا أنه لا يلتفت إليه، لأن الشعر من الأمور المتناقلة، والذي نقلته الأخبار وتواردت عليه أن العرب كانت تنظم المقاطيع من الأبيات فيما يعن لها من الحاجات، ولم يزل الحال على هذه الصورة إلى عهد أمريء القيس، وهو قبل الإسلام بمائة سنة زائدا فناقصا، فقصد القصائد، وهو أول من قصد، ولو لم يكن له معنى اختص به سوى أنه أول من قصد القصائد لكان في ذلك كفاية، وأي فضيلة من هذه الفضيلة؟ ثم تتابع المقصدون، واختير من القصائد تلك السبع التي علقت على البيت، وانفتح للشعراء هذا الباب في التقصيد، وكثرت المعاني المقولة بسببه، ولم يزل الأمر ينمي ويزيد ويؤتي بالمعاني الغريبة، واستمر ذلك إلى عهد الدولة العباسية وما بعدها إلى الدولة الحمدانية، فعظم الشعر، وكثرت أساليبه، وتشعبت طرقه، وكان ختامه على الثلاثة المتأخرين، وهم: أبو تمام حبيب بن أوس، وأبو عبادة الوليد بن عبيد البحتري، وأبو الطيب المتنبي، فإذا قيل: إن المعاني المبتدعة سبق إليها ولم يبق معنى مبتدع، عورض ذلك بما ذكرته.
والصحيح أن باب الابتداع للمعاني مفتوح إلى يوم القيامة، ومن الذي يحجر على الخواطر وهي قاذفة بما لا نهاية له؟ إلا أن من المعاني ما يتساوى الشعراء فيه، ولا يطلق عليه اسم الابتداع لأول قبل آخر، لأن الخواطر تأتي به من غير حاجة إلى اتباع الآخر قول الأول، كقولهم في الغزل:
عفت الديار وما عفت ** آثارهن من القلوب

وكقولهم إن الطيف يجود بما يبخل به صاحبه، وإن الواشي لو علم بمرار الطيف لساءه، وكقولهم في المديح: إن عطاءه كالبحر، وكالسحاب، وإنه لا يمنع عطاء اليوم عطاء غد، وإنه يجود ابتداء من غير مسألة، وأشباه ذلك وكقولهم في المراثي: إن هذا الرزء أول حادث، وإنه استواى فيه الأباعد والأقارب، وإن الذاهب لم يكن واحدا وإنما كان قبيلة، وإن بعد هذا الذاهب لا يعد للمنية ذنب، وأشباه ذلك.
وكذلك يجري الأمر في غير ما أشرت إليه من معان ظاهرة تتوارد الخواطر عليها من غير كلفة، وتستوي في إيرادها، ومثل ذلك لا يطلق على الآخر فيه اسم السرقة من الأول، وإنما يطلق اسم السرقة في معنى مخصوص كقول أبي تمام:
لا تنكروا ضربي له من دونه ** مثلا شردوا في الندى والباس

فالله قد ضرب الأقل لنوره ** مثلا من المشكاة والنبراس

فإن هذا المعنى مخصوص ابتدعه أبو تمام، وكان لابتداعه سبب، والحكاية فيه مشهورة، وهي أنه لما أنشد أحمد بن المعتصم قصيدته السينية التي مطلعها:
ما في وقوفك ساعة من باس

انتهى إلى قوله:
إقدام عمرو في سماحة حاتم ** في حلم أحنف في ذكاء إياس

فقال الحكيم الكندي: وأي فخر في تشبيه ابن أمير المؤمنين بأجلاف العرب؟ فأطرق أبو تمام ثم أنشد هذين البيتين معتذرا عن تشبيهه إياه بعمرو وحاتم وإياس، وهذا معنى يشهد به الحال أنه ابتدعه، فمن أتى من بعده بهذا المعنى أو بجزء منه فإنه يكون سارقا له.
وكذلك ورد قول أبي الطيب المتنبي في عضد الدولة وولديه:
وأنت الشمس تبهر كل عين ** فكيف وقد بدت معها اثنتان

فعاشا عيشة القمرين يحيا ** بضوئهما ولا يتحاسدان

ولا ملكا سوى ملك الأعادي ** ولا ورثا سوى من يقتلان

وكان ابنا عدو كاثراه ** له ياءي حروف أنيسيان

وهذا معنى لأبي الطيب، وهو الذي ابتدعه: أي أن زيادة أولاد عدوك كزيادة التصغير، فإنها زيادة نقص.
وما ينبغي أن يقال إن ابن الرومي ابتدع هذا المعنى الذي هو:
تشكو المحب وتلفى الدهر شاكية ** كالقوس تصمي الرمايا وهي مرنان

فإن علماء البيان يزعمون أن هذا المعنى مبتدع لابن الرومي، وليس كذلك، ولكنه مأخوذ من المثل المضروب، وهو قولهم: يلدغ ويسي، ويضرب ذلك لمن يبتديء بالأذى ثم يشكو، وإنما مثل ابن الرومي قد ابتدع معاني آخر غير ما ذكرته، وليس الغرض أن يؤتى على جميع ما جاء به هو ولا غيره من المعاني المبتدعة، بل الغرض أن يبين المعنى المبتدع من غيره.
والذي عندي في السرقات أنه متى أورد الآخر شيئا من ألفاظ الأول في معنى من المعاني، ولو لفظة واحدة فإن ذلك من أدل الدليل على سرقته.
واعلم أن علماء البيان قد تكلموا في السرقات الشعرية فأكثروا، وكنت ألفت فيه كتابا، وقسمته ثلاثة أقسام: نسخا، وسلخا، ومسخا.
أما النسخ فهو: أخذ اللفظ والمعنى برمته، من غير زيادة عليه، مأخوذا ذلك من نسخ الكتاب.
أما السلخ هو: أخذ بعض المعنى مأخوذا ذلك من سلخ الجلد الذي هو بعض الجسم المسلوخ وأما المسخ فهو: إحالة المعنى إلى ما دونه، مأخوذا ذلك من مسخ الآدميين قردة.
وهاهنا قسمان آخران أخللت بذكرهما في الكتاب الذي ألفته، فأحدهما أخذ المعنى مع الزيادة عليه، والآخر عكس المعنى إلى ضده، وهذان القسمان ليسا بنسخ ولا سلخ ولا مسخ.
وكل قسم من هذه الأقسام يتنوع ويتفرع، وتخرج به القسمة إلى مسالك دقيقة، وقد استأنفت ما فاتني من ذلك في هذا الكتاب، والله الموفق للصواب.
ومن المعلوم أن السرقات الشعرية لا يمكن الوقوف عليها إلا بحفظ الأشعار الكثيرة التي لا يحصرها عدد، فمن رام الأخذ بنواصيها، والاشتمال على قواصيها، بأن يتصفح الأشعار تصفحا، ويقتنع بتأملها ناظرا، فإنه لا يظفر منها إلا بالحواشي والأطراف.
وكنت سافرت إلى الشام سنة سبع وثمانين وخمسمائة، ودخلت مدينة دمشق فوجدت جماعة من أدبائها يلهجون ببيت من شعر ابن الخياط في قصيد له أولها:
خذا من صبا نجد أمانا لقلبه

ويزعمون أنه من المعاني الغريبة وهو:
أغار إذا آنست في الحي أنة ** حذارا عليه أن تكون لحبه

فقلت لهم: هذا البيت مأخوذ من شعر أبي الطيب المتنبي في قوله:
لو قلت للدنف المشوق فديته ** مما به لأغرته بفدائه

وقول أبي الطيب أدق معنى، وإن كان قول ابن الخياط أرق لفظا، ثم إني وقفتهم على مواضع كثيرة من شعر ابن الخياط قد أخذها من شعر المتنبي.
وسافرت إلى الديار المصرية في سنة ست وتسعين فوجدت أهلها يعجبون ببيت من الشعر يعزونه إلى شاعر من أهل اليمن يقال له عمارة، وكان حديث عهد بزماننا هذا في آخر الدولة العلوية بمصر، وذلك البيت من جملة قصيدة له يمدح بها بعض خلفائها عند قدومه عليه من اليمن، وهو:
فهل درى البيت أني بعد فرقته ** ما سرت من حرم إلا إلى حرم

فقلت لهم: هذا البيت مأخوذ من شعر أبي تمام في قوله مادحا لبعض الخلفاء في حجة حجها، وذلك بيت من جملة أبيات حسنة:
يا من رأى حرما يسري إلى حرم ** طوبى لمستلم يأتي وملتزم

ثم قلت في نفسي: يالله العجب ليس أبو تمام وأبو الطيب من الشعراء الذين درست أشعارهم، ولا هما ممن لم يعرف ولا اشتهر أمره، بل هما كما يقال: أشهر من الشمس والقمر، وشعرهما دائر في أيدي الناس، بخلاف غيرهما، فكيف خفي على أهل مصر ودمشق بيتا ابن الخياط وعمارة المأخوذان من شعرهما؟ وعلمت حينئذ أن سبب ذلك عدم الحفظ للأشعار، والاقتناع بالنظر في دواوينهما، ولما نصبت نفسي للخوض في علم البيان ورمت أن أكون معدودا من علمائه علمت أن هذه الدرجة لا تنال إلا بنقل ما في الكتب إلى الصدور والاكتفاء بالمحفوظ عن المسطور:
ليس يعلم ما حوى القمطر ** ما العلم إلا ما حواه الصدر

ولقد وقفت من الشعر على كل ديوان ومجموع، وانفدت شطرا من العمر في المحفوظ منه والمسموع، فألفيته بحرا لا يوقف على ساحله، وكيف ينتهي إلى إحصاء قول لم تحص أسماء قائله، فعند ذلك اقتصرت منه على ما تكثر فوائده، وتتشعب مقاصده، ولم أكن ممن أخذ بالتقليد والتسليم، في اتباع من قصر نظره على الشعر القديم، إذ المراد من الشعر إنما هو إيراد المعنى الشريف، في اللفظ الجزل واللطيف، فمتى وجدت ذلك فكل مكان خيمت فهو بابل، وقد اكتفيت في هذا بشعر أبي تمام حبيب بن أوس وأبي عبادة بن الوليد وأبي الطيب المتنبي، وهؤلاء الثلاثة هم لات الشعر وعزاه ومناته، الذين ظهرت على أيديهم حسناته ومستحسناته، وقد حوت أشعارهم غرابة المحدثين إلى فصاحة القدماء، وجمعت بين الأمثال السائرة وحكمة الحكماء.
أما أبو تمام فإنه رب معان، وصيقل ألباب وأذهان وقد شهد له بكل معنى مبتكر، لم يمش فيه على أثر، فهو غير مدافع عن مقام الإغراب الذي برز فيه على الأضراب، ولقد مارست من الشعر كل أول وأخير، ولم أقل ما أقول فيه إلا عن تنقيب وتنقير، فمن حفظ شعر الرجل وكشف عن غامضه وراضض فكره برائضه أطاعته أعنة الكلام، وكان قوله في البلاغة ما قالت حذام، فخذ مني في ذلك قول حكيم، وتعلم ففوق كل ذي علم عليم.
وأما أبو عبادة البحتري فإنه أحسن في سبك اللفظ على المعنى، وأراد أن يشعر فغنى، ولقد حاز طرفي الرقة والجزالة على الإطلاق، فبينا يكون في شظف نجد إذ تشبث بريف العراق، وسئل أبو الطيب المتنبي عنه، وعن أبي تمام، وعن نفسه، فقال: أنا وأبو تمام حكيمان، والشاعر البحتري، والعمري إنه أنصف في حكمه، وأعرب بقوله هذا عن متانة علمه، فإن أبا عبادة أتى في شعره بالمعنى المقدود من الصخرة الصماء، في اللفظ المصوغ من سلاسة الماء، فأدرك بذلك بعد المرام، مع قربه إلى الأفهام، وما أقول إلا أنه أتى في معانيه بأخلاط الغالية، ورقى في ديباجة لفظه إلى الدرجة العالية.
وأما أبو الطيب المتنبي فإنه أراد أن يسلك مسلك أبي تمام فقصرت عنه خطاه، ولم يعطه الشعر من قياده ما أعطاه، لكنه حظي في شعره بالحكم والأمثال، واختص بالإبداع في وصف مواقف القتال، وأنا أقول قولا لست فيه متأثما، ولا منه متلثما، وذاك أنه إذا خاض في وصف معركة كان لسانه أمضى من نصالها، وأشجع من أبطالها، وقامت أقواله للسامع مقام أفعالها، حتى تظن الفريقين قد تقابلا، والسلاحين قد تواصلا، فطريقه في ذلك تضل بسالكه، وتقوم بعذر تاركه، ولا شك أنه كان يشهد الحروب مع سيف الدولة ابن حمدان فيصف لسانه، ما أدى إليه عيانه، ومع هذا فإني رأيت الناس عادلين فيه عن سنن التوسط، فإما مفرط في وصفه وإما مفرط، وهو وإن انفرد بطريق صار أبا عذره، فإن سعادة الرجل كانت أكبر من شعره، وعلى الحقيقة فإنه خاتم الشعراء، ومهما وصف به فهو فوق الوصف وفوق الإطراء، ولقد صدق في قوله من أبيات يمدح بها سيف الدولة:
لا تطلبن كريما بعد رؤيته ** إن الكرام بأسخاهم يدا ختموا

ولا تبال بشعر بعد شاعره ** قد أفسد القول حتى أحمد الصمم

ولما تأملت شعره بعين المعدلة البعيدة عن الهوى، وعين المعرفة التي ما ضل صاحبها وما غوى، وجدته أقساما خمسة، خمس في الغاية التي انفرد بها دون غيره، وخمس من جيد الشعر الذي يساويه فيه غيره، وخمس من متوسط الشعر، وخمس دون ذلك، وخمس في الغاية المتقهقرة التي لا يعبأ بها وعدمها خير من وجودها، ولو لم يقلها أبو الطيب لوقاه الله شرها، فإنها التي ألبسته لباس الملام وجعلت عرضه شارة لسهام الأقوام.
ولسائل هاهنا أن يسأل لما عدلت إلى شعر هؤلاء الثلاثة دون غيرهم؟ فأقول: إني لم أعدل إليهم اتفاقا، وإنما عدلت إليهم نظرا واجتهادا، وذلك أني وقفت على أشعار الشعراء قديمها وحديثها حتى لم أترك ديوانا لشاعر مفلق يثبت شعره على المحل إلا وعرضته على نظري، فلم أجد أجمع من ديوان أبي تمام وأبي الطيب للمعاني الدقيقة، ولا أكثر استخراجا منهما للطيف الأغراض والمقاصد، ولم أجد تهذيبا للألفاظ من أبي عبادة، ولا أنقش ديباجة، ولا أبهج سبكا، فاخترت حينئذ دواوينهم، لاشتمالها على محاسن الطرفين من المعاني والألفاظ، ولما حفظتها ألغيت ما سواها مع ما بقي على خاطري من غيرها.
وقد أوردت في هذا الموضع من السرقات الشعرية ما لو يورده غيري، ونبهت على غوامض منها.
وكنت قدمت القول أني قسمتها إلى خمسة أقسام، منها الثلاثة الأول وهي: النسخ، والسلخ، والمسخ، ومنهما القسمان الآخران، وها أنا أبين ما تنقسم إليه هذه الأقسام من تشعبها وتفريعها فأقول:

.النسخ:

فأما النسخ فإنه لا يكون إلا في أخذ المعنى واللفظ جميعا، أو في أخذ المعنى وأكثر اللفظ لأنه مأخوذ من نسخ الكتاب، وعلى ذلك فإنه ضربان:

.الأول: يسمى وقوع الحافر على الحافر:

كقول امرئ القيس:
وقوفاً بها صحبي على مطيهم ** يقولون لا تهلك أسى وتحمل

وكقول طرفة:
وقوفا بها صحبي علي مطيهم ** يقولون لا تهلك أسى وتجلد

وقد أكثر الفرزدق وجرير من هذا في شعرهما، فمنه ما وردا فيه مورد امرئ القيس وطرفة في تخالفهما في لفظة واحدة، كقول الفرزدق:
أتعدل أحسابا لئاماً حماتها ** بأحسابنا إني إلى الله راجع

وكقول جرير:
أتعدل أحسابا كراما حماتها ** بأحسابكم إني إلى الله راجع

ومنه ما تساويا فيه لفظا بلفظ كقول الفرزدق:
وغر قد نسقت مشهرات ** طوالع لا تطيق لها جوابا

بكل ثنية وبكل ثغر ** غرائبهن تنتسب انتسابا

بلغن الشمس حين تكون شرقا ** ومسقط رأسها من حيث غابا

وكذلك قال جرير من غير أن يزيد.
وقد حكي أن امرأة من عقيل يقال لها ليلى كان يتحدث إليها الشباب، فدخل الفرزدق إليها، وجعل يحادثها، وأقبل فتى من قومها كانت تألفه، فدخل إليها، فأقبلت عليه وتركت الفرزدق فغاظه ذلك، فقال للفتى: أتصارعني؟ فقال: ذاك إليك، فقال إليه، فلم يلبث أن أخذ الفرزدق فصرعه، وجلس على صدره، فضرط، فوثب الفتى عنه، وقال: يا أبا فراس، هذا مقام العائذ بك والله ما أردت ما جرى، فقال: ويحك والله ما بي أنك صرعتني، ولكن كأني بابن الأتان، يعني جريرا وقد بلغه خبري فقال يهجوني:
جلست إلى ليلى لتحظى بقربها ** فخانك دبر لا يزال يخون

فلو كنت ذا حزم شددت وكاءه ** كما شد جربان الدلاص قيون

قال: فوالله ما مضى إلا أيام حتى بلغ جريرا الخبر، فقال فيه هذين البيتين، وهذا من أغرب ما يكون في مثل هذا الموضع وأعجبه.
ويقال: إن الفرزدق وجريرا كانا ينطقان في بعض الأحوال عن ضمير واحد.
وهذا عندي مستبعد، فإن ظاهر الأمر يدل على خلافه، والباطن لا يعلمه إلا الله تعالى.
وإلا فإذا رأينا شاعرا متقدم الزمان قد قال قولا ثم سمعناه من شاعر أتى من بعده علمنا بشهادة الحال أنه أخذه منه، وهب أن الخواطر تتفق في استخراج المعاني الظاهرة، المتداولة، فكيف تتفق الألسنة في صوغها الألفاظ؟ ومما كنت أستحسنه من شعر أبي نواس قوله من قصيدته التي أولها:
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء

دارت على فتية ذل الزمان لهم ** فما يصيبهم إلا بما شاءوا

وهذا من عالي الشعر ثم وقفت في كتاب الأغاني لأبي الفرج على هذا البيت في أصوات معبد، وهو:
لهفي على فتية ذل الزمان لهم ** فما أصابهم إلا بما شاءوا

وما أعلم كيف هذا.

.الضرب الثاني من النسخ: وهو الذي يؤخذ فيه المعنى وأكثر اللفظ:

كقول بعض المتقدمين يمدح معبدا صاحب الغناء:
أجاد طويس والسريجي بعده ** وما قصبات السبق إلا لمعبد

ثم قال أبو تمام:
محاسن أصناف المغنين جمة ** وما قصبات السبق إلا لمعبد

وهذه قصيدة أولها:
غدت تستجير الدمع خوف نوى غد

فقال:
وقائع أصل النصر فيها وفرعه ** إذا عدد الإحسان أو لم يعدد

فمهما تكن من وقعة بعد لا تكن ** سوى حسن مما فعلت مردد

محاسن أصناف المغنين جمة

البيت.

.السلخ:

وأما السلخ فإنه ينقسم إلى اثني عشر ضربا، وهذا تقسيم أوجبته القسمة، وإذا تأملته علمت أنه لم يبق شيء خارج عنه.

.فالأول: أن يؤخذ المعنى ويستخرج منه ما يشبهه:

ولا يكون هو إياه، وهذا من أدق السرقات مذهبا، وأحسنها صورة ولا يأتي إلا قليلا.
فمن ذلك قول بعض شعراء الحماسة:
لقد زادني حبا لنفسي أنني ** بغيض إلى كل امريء غير طائل

أخذ المتنبي هذا المعنى واستخرج منه معنى آخر غيره إلا أنه شبيه به، فقال:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص ** فهي الشهادة لي بأني فاضل

والمعرفة بأن هذا المعنى أصله من ذاك المعنى عسر غامض، وهو غير متبين إلا لمن أعرق في ممارسة الأشعار، وغاص في استخراج المعاني وبيانه أن الأول يقول: إن بغض الذي هو غير طائل إياي مما زاد نفسي حبا إلي أي جملها في عيني وحسنها عندي كون الذي هو غير طائل مبغضي والمتنبي يقول: إن ذم الناقص إياي شاهد بفضلي، فذم الناقص إياه كبغض الذي هو غير طائل ذلك الرجل، وشهادة ذم الناقص إياه بفضله كتحسين بغض الذي هو غير طائل نفس ذلك الرجل عنده.
ومن هذا الضرب ما هو أظهر مما ذكرته وأبين، كقول أبي تمام:
رعته الفيافي بعد ما كان حقبة ** رعاها وماء الروض ينهل ساكبه

أخذ البحتري هذا المعنى واستخرج منه ما يشابهه، كقوله في قصيدة يفخر فيها بقومه:
شيخان قد ثقل السلاح عليهما ** وعداهما رأي السميع البصير

ركبا القنا من بعد ما حملا القنا ** في عسكر متحامل في عسكر

فأبو تمام ذكر أن الجمل رعى الأرض ثم سار فيها فرعته: أي أهزلته، فكأنها فعلت به مثل ما فعل بها، والبحتري نقل هذا إلى وصف الرجل بعلو السن والهرم، فقال: إنه كان يحمل الرمح في القتال ثم صار يركب عليه: أي يتوكأ منه على عصا، كما يفعل الشيخ الكبير.
وكذلك ورد قول الرجلين أيضا، فقال أبو تمام:
لا أظلم النأي قد كانت خلائقها ** من قبل وشك النوى عندي نوى قذفا

وهذا أوضح من الذي تقدمه، وأكثر بيانا.

.الضرب الثاني من السلخ: أن يؤخذ المعنى مجردا من اللفظ:

وذلك مما يصعب جدا، ولا يكاد يأتي إلا قليلا.
فمنه قول عروة بن الورد من شعراء الحماسة:
ومن يك مثلي ذا عيال ومقترا ** من المال يطرح نفسه كل مطرح

ليبلغ عذرا أو ينال رغيبة ** ومبلغ نفس عذرها مثل منجح

أخذ أبو تمام هذا المعنى فقال:
فتى مات بين الضرب والطعن ميتة ** تقوم مقام النصر إذ فاته النصر

فعروة بن الورد جعل اجتهاده في طلب الرزق عذرا يقوم مقام النجاح، وأبو تمام جعل الموت في الحرب الذي هو غاية اجتهاد المجتهد في لقاء العدو قائما مقام الانتصار، وكلا المعنيين واحد غير أن اللفظ مختلف.
وهذا الضرب في سرقات المعاني من أشكلها، وأدقها وأغربها، وأبعدها مذهبا، ولا يتفطن له ويستخرجه من الأشعار إلا بعض الخواطر دون بعض.
وقد يجيء منه ما هو ظاهر لا يبلغ الدقة مبلغ هذه الأبيات المشار إليها، كقول ابن المقفع في باب الرثاء من كتاب الحماسة:
فقد جر نفعا فقدنا لك أننا ** أمنا على كل الرزايا من الجزع

وجاء بعده من أخذ هذا المعنى فقال:
وقد عزى ربيعة أن يوما ** عليها مثل يومك لا يعود

وهذا من البديع النادر.
وهاهنا ما هو أشد ظهورا من هذين البيتين في هذا الضرب من السرقات الشعرية، وذلك يأتي في الألفاظ المترادفة التي يقوم بعضها مقام بعض، وذاك الاعتداد به لمكان وضوحه، لكن قد يجيء منه ما هو صفة من صفات الترادف لا الاسم نفسه، فيكون حسنا كقول جرير:
ولا يمنعك من أرب لحاهم ** سواء ذو العمامة والخمار

أخذ أبو الطيب المتنبي هذا المعنى فقال:
ومن في كفه منهم قناة ** كمن في كفه منهم خطاب